الجمعة، 12 يونيو 2009

قل هو من عند أنفسكم


قل هو من عند أنفسكم
بقلم:أحمد أبو رتيمة

'كل ابن آدم خطاء'حقيقة يقررها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،فالخطأ طبيعة ملازمة للإنسان لا مفر منها،وفي القرآن العظيم:'وخلق الإنسان ضعيفاً'.

لكن الناس يتمايزون في التعامل مع هذه الحقيقة،فهناك من إذا رأى نتيجة خطئه وعقوبة ذنبه وبدت له سوءته سارع إلى مراجعة نفسه والتوبة إلى ربه،،وهذا هو الفريق الذي أشار إليه الشطر الآخر من الحديث 'وخير الخطاءين التوابون' وهذا الفريق يظل في دائرة الرحمة الإلهية وإن عاد إلى الخطأ مرةً بعد مرة،لأن خطأه ليس نتيجة إصرار واستكبار بل هو نتيجة ضعفه الطبيعي،وفي الحديث الشريف:'لا يمل الله حتى تملوا'.

أما الفريق الآخر فهم الذين يصرون ويستكبرون استكباراً،ويتمادون في ضلالهم دون مراجعة للنفس،بل ينزهونها عن الخطأ،وإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم لا يتوبون ولا يستغفرون،وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.

وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً للفريقين،فأما الفريق الأول فمثله أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام حين أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها،فلما رأيا نتيجة المخالفة بأن بدت لهما سوءاتهما،سارعا إلى مراجعة أنفسهما وإلى التوبة:(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)،ورغم أن القرآن ذكر صراحةً بأن الشيطان هو الذي أزلهما ووسوس لهما بالأكل من الشجرة المحرمة،إلا أنهما حملا مسئولية الخطأ لأنفسهم،وطلبا من الله المغفرة والرحمة،فكانت نتيجة هذه الشجاعة في تحمل المسئولية ولوم النفس بأن تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.

أما مثل السوء فكان إبليس الذي تكبر عن طاعة ربه وأبى السجود لآدم ونزه نفسه فقال: 'أنا خير منه' ،وأصر على المعصية فلم يتب إلى ربه،فكانت النتيجة هي الطرد من الجنة،واستحقاق اللعنة إلى يوم الدين،وبعد كل هذا لم يقف مع نفسه وقفة حساب فيلومها بل نسب إغواءه إلى الله عز وجل:'قال فبما أغويتني'.

من هذه المشاهد القرآنية تستبين أمامنا سبيلان:

سبيل آدم وفيها مراجعة النفس،ولومها،والتوبة والإنابة،وسبيل إبليس وفيها العناد والاستكبار وتنزيه النفس وتحميل المسئولية لعوامل خارجية.

من يتبع سبيل آدم تفتح أمامه أبواب الرحمة والمغفرة الإلهية،ويضع قدميه في طريق الهداية ،فمن يعترف بمسئولية نفسه عن الخطأ ويدينها تكون لديه القابلية لتغيير ما بها وإصلاحها لأن الإنسان يملك أن يغير ما بنفسه،أما من يتبع خطوات الشيطان ويرفض الاعتراف بالذنب وينزه نفسه،وينسب الخطأ إلى الآخرين فإنه يبتعد عن الرحمة الإلهية،ويغلق أمامه أي طريق للحل والاهتداء،فما دامت النفس منزهة،وما دامت المشكلة من عند الآخرين،فلن يصلح من نفسه وسيتمادى في ضلاله.

وقد حفل القرآن الكريم بشواهد عديدة تدعو إلى الالتفات إلى داخل النفس لا إلى خارجها لتفسير ما يواجهها من مصائب،وقد أقسم الله عز وجل في مطلع سورة القيامة بالنفس اللوامة وهي النفس التي تكثر من لوم صاحبها،وحين أصيب المسلمون في غزوة أحد ولم يكونوا قد عهدوا الهزائم تساءلوا مستغربين:'أنى هذا' فنزل القرآن يعلمهم درساً في تحميل النفس دون غيرها المسئولية فرد عليهم:'قل هو من عند أنفسكم' ،بل ذهب القرآن أبعد من ذلك في هذا الاتجاه حين قال:'وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم'،مستخدماً أسلوب القصر والحصر أي أنه لا توجد مصيبة صغيرة أو كبيرة،والمصيبة هي كل ما يكره الإنسان،سواءً كانت هذه المصيبة على مستوى الفرد أو الجماعة،فمرد هذه المصيبة إلى ما كسبت أيديكم،ويعف عن كثير، وفي الحديث الشريف أنه ما يصيب المؤمن من خدشة عود أو عثرة قدم أو اختلاج عرق إلا بذنب أصابه،وفي حديث آخر:'إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه'، وحين دخل أحد الناس على الحسن البصري وشكا له عدم الإنجاب قال له:استغفر الله،وبعد قليل دخل رجل آخر وشكا الفقر فقال له استغفر الله،وبعدها دخل ثالث وشكا له قلة الزرع فقال له:استغفر الله،ويروى عن أحد السلف أنه كان يقول:'إني لأعرف حسنتي من سيئتي من خلق دابتي ومن خلق زوجتي'.

مما سبق يتضح لنا أن كل ما يصيبنا سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات والأمم من فقر و مرض و هم و تعسر أمور،وهزائم وتراجع حضاري وظهور الأمم علينا فهو نتيجة حتمية لما كسبت أيدينا،و بدلاً من لوم الآخرين علينا أن نلوم أنفسنا وأن نرجع إلى الحق ونتوب أفراداً وجماعات 'وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون'.

إن قيمة هذا الفهم في حياتنا هو أنه يوجه الجهود إلى محلها الصحيح وهو الداخل،ولا يهدر الطاقة في اللعن والسب وتحميل الآخرين مسئولية الفشل،كما أنه يضفي على النفوس حالة من الطمأنينة والرضا فكل ما يواجهنا هو بظلمنا لأنفسنا قبل أن يكون بظلم الآخرين لنا،وحين نغير ما بأنفسنا سيغير الله ما بنا،كما أن هذا الفهم يعزز الرقابة الداخلية في نفوسنا فمن يعلم أن لكل فعل يقوم به نتيجة عاجلة فإنه سيراقب نفسه وبالتالي ستستقيم حياته .

بمثل هذه المفاهيم يضع الإنسان قدميه في طريق الحل،ويعود نفسه على تحمل مسئولية كل ما تقدمه يداه،ويخرج من دائرة الشكوى ونقد الآخرين إلى دائرة الفعل والإنتاج.

abu-rtema@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق